تقاطع الاستراتيجيات الأمريكية والفرنسية حول الجزائر
ثمة أسباب تاريخية وحضارية مشتركة، ومصالح جيوسياسية تدفع إلى الاهتمام بمسار العلاقات الجزائرية - الفرنسية, والجزائرية - الأمريكية، ففرنسا بسبب الماضي الاستعماري والعسكري الذي تحول فيما بعد من مراحل المواجهة تارة، إلى مراحل التعاون والتعايش تارة أخرى، وهذه الخصوصية تشمل أيضاً العلاقات المغاربية - الأوروبية لاعتبارات متقاربة.
فالروابط الاقتصادية والسياسية والثقافية سواء المبنية منها على علاقات التبعية، أو المبنية على الاعتماد المتبادل بين بلدان المغرب العربي وفرنسا؛ تشكل في مجموعها عوامل محفزة لبناء إطار إقليمي للتعاون بين فرنسا وتلك البلدان، أما الجزائر فلها خصوصية أشد داخل الخصوصية المغاربية، فهي تمثل مجالاً استراتيجياً حيوياً لفرنسا سواء علي الصعيد الاقتصادي، أو الدفاعي الأمني، بطابعه الجغرافي والسـكاني، كذلك يمثل النفط والغاز الجـزائريان مصدراً أساسياً للطاقة الفرنسية.
أما العلاقات الجزائرية - الأمريكية فتنبع من محورية الدور الأمريكي في أغلب المنظومات الإقليمية في العالم، وتقاطعات المصالح السياسية والإستراتيجية الأمريكية مع أغلب بلدان العالم، مما حول كثير من منظورات التحليل الجيواستراتيجي من المركزية الأوروبية إلى المركزية الأمريكية.
وإذا كان للباحث أن يستبق التحليل فيقول: إن نتيجة أكثر من عقد ونصف من الصراع على صعيد علاقات الجزائر الخارجية أن فقدت الجزائر كل ما تميزت به وورثته عن ثورتها التحررية الرائدة, فمن شعار "ندعم فلسطين ظالمة أو مظلومة" الذي كان يرفعه بومدين, انتهى بوتفليقة إلى مصافحة رئيس الوزراء الصهيوني السابق أيهود باراك، ومن سياسة محاربة الفرنكفونية انتهت الجزائر صاغرة إلى عضوية المنظمة التي ظلت تحاربها زهاء أربعين عاماً، ومن مبدأ الحياد بين الأقطاب الدولية المتصارعة انتهت الجزائر إلى الانفتاح على الحلف الأطلسي الذي وقف يوماً خلف المستعمر الفرنسي ضد ثورتها التحررية, كما انتهت إلى توقيع اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي يعتبره معظم المحللين الجزائريين بما فيهم مستشار سابق لرئيس الجمهورية اتفاقا كارثياً سيجعل من اقتصاد البلاد اقتصاد "بازار" يعرض البضائع الأوروبية ويروج لها, وتموت فيه الصناعة الوطنية بسبب عجزها عن المنافسة.
وليس سراً أن الاهتمام الغربي بالجزائر لا ينطلق من أسباب إنسانية بحتة، ولكن الجزائر اكتسبت وضعاً خاصاً في النظر الغربي لثلاثة أسباب أساسية هي:
1- خشية الدول الغربية من أن يؤدي تفاقم الأوضاع وانفلاتها في الجزائر إلى تدفق جيش من اللاجئين باتجاهها عبر شواطئ البحر المتوسط، ومعروف أن الهجرة إلى أوروبا أصبحت أحد الشواغل المهمة لدولها في ظروف الكساد الاقتصادي الراهن، في حين تزامن ذلك مع ضغوط المهاجرين القادمين من كل صوب بدءاً بأبناء أوروبا الشرقية (سابقاً) وانتهاء بالأكراد، وكما يقول الدكتور عبد الحميد الإبراهيمي رئيس وزراء الجزائر الأسبق: إن المغرب العربي الذي يجتازه تيار إسلامي قوي أصبح بالنسبة إلى أوروبا عبارة عن "تهديد"، لذلك تحاول أوروبا أن تضع استراتيجية تقي رفاهيتها من البؤس المادي والثقافي المتنامي في المغرب العربي، والذي تعتبره خزاناً مهماً للهجرة.
2- حرص تلك الدول على حماية استثمارات ومصالح الشركات الغربية العاملة في قطاع النفط والغاز، وهي الاستثمارات التي تقدر بمليارات الدولارات، في الوقت ذاته فإن الدول الغربية تريد حماية نصيبها من صادرات الجزائر من النفط والغاز التي تقدر بمبلغ 13.5 مليار دولار سنوياً (إسبانيا مثلاً تعتمد على الجزائر في استيراد 60% من نفطها، وإيطاليا تعتمد على ذلك النفط بنسبة 40%).
3- خوف الدول الأوروبية من انتقال شرارة صراع الداخل الجزائري إلى أراضيها الذي ينتشر فيها الجزائريون بمختلف توجهاتهم السياسية، وإذا لاحظنا الكثافة العددية التي يتميز بها الجزائريون، وبعد التفجيرات التي حدثت في باريس ونسبت إلى بعض الفصائل المتصارعة في الجزائر؛ فإننا قد ندرك أن ذلك الخوف الأوروبي ليس ناشئاً من فراغ كما يقول الأستاذ فهمي هويدي في مقالته خصخصة العنف في الجزائر.
وفي هذه المقالة يحاول الباحث رصد وتحليل تقاطعات المصالح الفرنسية والأمريكية حول الجزائر، بدء بالمصالح الجيوسياسية، وانتهاء بمستقبل تلك المصالح في ظل صراع أمريكي فرنسي حول مواقع ومناطق النفوذ التاريخية.
1- الموقف الفرنسي من الجزائر: التأرجح بين التحفظ والانحياز:
صدمت الأوساط السياسية الفرنسية من دون أدنى شك بنبأ فوز جبهة الإنقاذ الإسلامية في الانتخابات البلدية 1990، وبدأت تستذكر أيام الحرب الاستعمارية التي شنتها ضد الشعب الجزائري هادفة إلى تقويض كل مكونات تكوينه السياسي والاجتماعي، والديني والثقافي، إلى أن أجبرها أخيراً على الرحيل عن أرضه ووطنه، والاعتراف بالاستقلال الكامل.
ومن تلك السنوات وحتى فوز الإسلاميين في الانتخابات البلدية 1990 كانت العلاقات بين الدولتين متأرجحة بين التقارب والتباعد، حيث طغيان إرث السيطرة الاستعمارية، يتنافس مع القوى الأخرى للسياسة الفرنسية، ويبدو أن رد فعل مختلف القوى الفرنسية إزاء هذا "الإسلام الأصولي" الذي هز الضفة الأخرى من حوض البحر المتوسط عكس الوسط السياسي التي صدرت عنه، فإذا كان جاك شيراك رئيس الجمهورية الفرنسية الحالي أعلن عندما كان عمدة باريس وزعيم حزب التجمع من أجل الجمهورية الديجولي أنه من الضروري إعادة التفكير في طبيعة المساعدة الاقتصادية التي نمنحها للمغرب العربي، فإن النائب ألن لامارسو من حزب التحالف الديمقراطي كان واقعياً في رده، إذ دعا إلى "ضرورة التكيف للعيش مع الأصولية"، أما رئيس الجمهورية السابق "فرانسوا ميتران" الذي لم يستطع الصمت إزاء اتهامه بـ "الماضي الأسود" ضد المجاهدين الجزائريين، وخصوصاً عندما كان وزيراً للداخلية في الجمهورية الرابعة، فقد أعلن "أن كل شعب يعيش في دولة مستقلة حر في اختياراته"، وفي هذا الإطار فقد انقسمت الحكومة الفرنسية في سياستها في الجزائر، فبينما ألحت وزارة الخارجية على تسوية الموضوع بالتفاوض، ساندت وزارة الدفاع العسكريين الجزائريين الذين هم في مجملهم استئصاليون، وإذا كانت تلك التصريحات العنيفة لا تعبر عن أسلوب الديبلوماسية الفرنسية التي عرفت بسياسة المسايرة والتهدئة، مع الحذر الشديد في التعامل مع الأحداث الحساسة ذات التأثير الكبير في المصالح الفرنسية، فإن الموقف الفرنسي الصريح من "الإسلام السياسي" في الجزائر ومن الجزائر بخاصة يختلف عن ذلك كثيراً، وهو محكوم بعدد من الاعتبارات والمتغيرات الإقليمية والدولية.
ذلك أن استقرار الوضع السياسي في الجزائر له انعكاساته أيضاً على استقرار المنطقة، كما إن الوضع المتأزم فيها عامل مركزي من عوامل تحريك عدم الاستقرار في المنطقة من خلال المكانة التي تحتلها الجزائر، إضافة إلى أن استلام الإسلام السياسي السلطة من شأنه أن ينشط الاتجاهات الإسلامية الأخرى في القسم الجنوبي لحوض البحر المتوسط وخصوصاً في المغرب العربي ومصر، وإن نجاح جبهة الإنقاذ ووصولها إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع يمثل حالة من الممكن سريانها إلى الدول الأخرى، وإطلالاً جديدة لتفاعلات سياسية مستقبلية.
وتأسيساً على ما تقدم، فإن الموقف الفرنسي الذي حكمته اعتبارات متعددة خرج عن "حياديته" إزاء ما يجري في الجزائر، فمن المعروف أن 132 عاماً من الاحتلال لم تنه خصوصية العلاقة الفرنسية الجزائرية، إذ يبقى الحفاظ على مصالح فرنسا الاقتصادية والجيوسياسية والثقافية خطاً ثابتاً يجب حمايته بصرف النظر عن مختلف الأنظمة السياسية الحاكمة في الجزائر.
وفي إطار دعم باريس للمجموعة الحاكمة في الجزائر دعمت محمد بوضياف رئيس المجلس الأعلى للدولة الجزائرية في المجموعة الأوروبية، كما أشارت بعض الأوساط المراقبة إلى أن باريس قامت بتزويد قوات الجيش والأمن الجزائريين بأسلحة ومعدات تقدر قيمتها بـ100 مليون دولار بهدف السيطرة على الوضع الأمني، والحد من فاعلية العنف المسلح الذي تقوده المجموعة الإسلامية المسلحة.
هذا الانعطاف في السياسة الفرنسية المعلنة إنما حكمه وصول الوضع الأمني في الجزائر إلى مرحلة خطيرة جدّاً تهدد وجود النخبة الفرانكوفونية ونفوذها، وإن سيادة الإسلاميين في حربهم ضد السلطة معناه ضياع الجزائر نهائياً من أيدي الفرنسيين، من هنا بدأت باريس جهودها الديبلوماسية أولاً: في إطار المجموعة الأوروبية واتحاد أوروبا الغربية، وثانياً في مجموعة حوض البحر المتوسط والاتحاد المغاربي، هذا فضلاً عن تخوفها من الهيمنة الأمريكية، وتدخلها في منطقة ما زالت منطقة نفوذ ومصالح فرنسية، وفي هذا الصدد فإن وزير الخارجية السابق في حكومة بلادور آلن جوبيه اعتبر الوضع في الجزائر بالغ الخطورة مشيراً إلى ضرورة التدخل الفرنسي لدعم السلطة في الجزائر لبدء الحوار مع القوى الجزائرية التي تريد الحوار، وعدم انتظار النتائج المترتبة على مواصلة العنف بين السلطة والمعارضين.
لقد حددت الأوساط الرسمية الفرنسية - أكثر من مرة - تعريفها للوضع الراهن في الجزائر على ضوء الأطروحات التالية:
أولاً:أن النزاع في أساسه هو مجرد تعبير عن انقسام أو تعارض بين الحركة الإسلامية من جهة (أو الأصولية الإسلامية، أو "المتشددين") لاسيما الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة، وبين الدولة من جهة أخرى.
ثانياً: أن التعارض بين الطرفين يشمل جميع الجوانب، بحيث لا يوجد مجال لحل وسط؛ لأن الإسلاميين ثوريون في أهدافهم وأساليبهم أيضاً، ولن يقبلوا بأقل من جمهورية إسلامية، بينما الدولة - وهي أساساً علمانية وعصرية - لا تستطيع أن تتوصل إلى اتفاق مع أعدائها دون أن تلجأ لتقويض أركانها.
ثالثاً: أن قيام جمهورية إسلامية في الجزائر سيشكل كارثة على كل من الأطراف التالية:
(أ) على الجزائر كدولة؛ لأن ذلك سينطوي على تراجع هائل في النواحي السياسية والاجتماعية، والأدبية والقانونية والثقافية.
(ب) على فرنسا؛ لأنها لن تكون فقط إيذاناً بنكسة كبيرة لمصالح فرنسا في الجزائر، ولكنها ستعجل بخروج مئات الآلاف من الجزائريين "النازحين بالقوارب" طلباً للجوء إلى الجانب الآخر من البحر الأبيض المتوسط، كما أن قيام جمهورية إسلامية ثورية في الجزائر سوف يعرقل بصورة خطيرة جهود فرنسا لدمج مواطنيها المسلمين - وهم بضعة ملايين - في المجتمع الفرنسي، ويفرض عليها تشجيع قيام "إسلام فرنسي" معتدل وغير سياسي في فرنسا.
(جـ) على الدولة العربية الأخرى ولاسيما تونس ومصر، حيث يخشى امتداد أحداث مشابهة إلى تلك الدول، وهو ما يعرف بظاهرة "الدومينو".
(د) على الغرب بوجه عام، بما ينطوي عليه ذلك من هزيمة للقيم العصرية والديمقراطية.
(هـ) على أوربا بوجه خاص، بسبب الأهمية الاستراتيجية لجناحها الجنوبي المطل على البحر الأبيض المتوسط.
رابعاً: أن أسباب التوجهات الإسلامية الثورية هي أسباب اقتصادية أساساً، وبذلك تكون الطريقة الرئيسية لمعالجة جذور المشكلة هي حقن البلاد بجرعات هائلة من المعونة الاقتصادية.
خامساً: أن طرفي النزاع أي المسلحين الإسلاميين الثوريين من جهة، والدولة العصرية المحاصرة من جهة أخرى، لا يوجد بينهما أي حل وسط يمكن التفاوض بشأنه، فلا مجال إذن لـ "طريق ثالث".
سادساً: في هذه الظروف لا يوجد بديل عن دعم نظام الحكم القائم عسكرياً واقتصادياً، على الرغم من عيوبه الظاهرة، باعتباره أهون الشرين.
سابعاً: مع التسليم بمنح نظام الحكم القائم هذا الدعم - باعتباره ضرورة يؤسف لها - يجب في النهاية إيجاد حل سياسي، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا بالحوار بين النظام والقوى الأخرى التي تنبذ العنف، وما فتئت فرنسا تشجع النظام الحاكم على القيام بهذه الخطوة الضرورية.
2- الموقف الأمريكي: اقتلاع فرنسا من أخر قلاعها الحصينة:
تتعدد المحاور التي تتعامل الإدارة الأمريكية من خلالها مع الموقف الجزائري، فهناك على الأقل ثلاثة محاور يمكن من خلالها متابعة الموقف الأمريكي من الحالة الجزائرية، هذه المحاور هي: المحور الأمني والمتعلق بموقف الولايات المتحدة من أعمال العنف الدائر في الجزائر منذ ما يزيد على عقد ونصف من السنوات.
والمحور الاقتصادي والمتعلق بحرص الولايات المتحدة على تأمين وصول خامات المحروقات من النفط والغاز الطبيعي والتي تحصل عليها بكميات كبيرة من الجزائر.
والمحور الإستراتيجي والذي تركز الولايات المتحدة من خلاله على أمرين:
الأول: إدخال الجزائر في دائرة الدول المحورية Pivotal States الأكثر أهمية بالنسبة للولايات المتحدة.
أما الثاني: فهو مسألة النزاع الدائر حول الصحراء الغربية، والذي تشكل الجزائر ضلعاً أساسياً فيه.
بداية لم تخف الولايات المتحدة الأمريكية في بداية الأزمة الجزائرية - أي السنوات الممتدة من 1991 إلى 1994 - إمكانية قبولها أو حتى تشجيعها استلام الجبهة الإسلامية للإنقاذ الحكم في الجزائر، وإن استقبلت الإدارة الأمريكية حادثة إلغاء الانتخابات التشريعية في الجزائر عام 1991 بشكل اتسم بالسلبية الشديدة؛ إذ اكتفي المتحدث باسم الإدارة الأمريكية بالإعلان عن أسف الولايات المتحدة لإيقاف العملية الديموقراطية في الجزائر/ غير أنه لم يشفع هذا الأسف بالإعلان عن عزم بلاده اتخاذ أي خطوات عملية لتفعيل موقفها الرافض.
وعليه بدا التصريح الأمريكي المقتضب كما لو كان لخدمة أغراض الاستهلاك الإعلامي فحسب، أما الموقف السياسي الفعلي للإدارة الأمريكية فقد أظهر ارتياحاً صريحاً لتدخل الجيش لإقصاء الإسلاميين عن الحكم، ولم يكن عسيراً على الإدارة الأمريكية أن تبرر موقفها في هذا الصدد، فهي وإن كانت "تدعم العملية الديموقراطية في بلدان الشرق الأوسط، إلا أنها تعارض في الوقت ذاته هؤلاء الذين يتخذون من الديموقراطية مجرد ذريعة للاستيلاء على السلطة، والاحتفاظ بها للأبد" (تقصد الإسلاميين بطبيعة الحال).
بعد ذلك اتخذت الإدارة الأمريكية مواقفاً أكثر وضوحاً في دعم النظام الجزائري، وإن حكمت هذا الدعم عدة اعتبارات لعل أهمها: وصول الرئيس الأمين زروال إلي السلطة، واكتسابه الشرعية العقلانية، أي الانتخابات العامة التي جرت سنة 1995، إضافة إلي تمكنه من تعبئة أنصار كثيرين بما فيهم قطاعات واسعة من تيار الإسلام السياسي بقيادة محفوظ نحناح، إضافة عامل آخر محدد في عملية التغير الأمريكي وهو البعد البراجماتي لسياستها.
فقد رصدت أجهزتها استحالة أي انتصار عسكري للحركة الإسلامية المسلحة التي تشتتت وضعفت إلي حد التقاتل الداخلي، أصبحت الجبهة الإسلامية للإنقاذ عنصر خسارة في معادلتها، فتخلت عنه نحو الاقتراب من النظام، وتشجيع شق داخله بعدما اتضح مدي صلابته، وإمكانيات الاستمرار لديه، انتقلت أمريكا من اتخاذ المواقف إلى الفعل، فبادرت بالقيام بمجموعة إجراءات عملية هدفت إلي دعم النظام ومحاصرة خصمه، واعتقلت أنور هدام أحد القياديين البارزين لجبهة الإنقاذ المقيمين علي ترابها، نتج هذا التغير الأمريكي عن سياستها البراجماتية لأنه في حقيقة الأمر تطور عكس تغير موازين القوى لصالح النظام الجزائري.
وخلاصة هذا التحليل يمكن القول إن المواقف الفرنسية والجزائرية من الأزمة الجزائرية قد حكمته الاعتبارات السياسية والمصلحية الخاصة بمواقع النفوذ التاريخي، وتداعيات وصول الإسلاميين للسلطة في الجزائر، وأثر كل ذلك على النخب الحاكمة بامتداداتها الخارجية، ومنظومة قيمها، وتصوراتها لنظام الحكم الداخلي، وشبكة مصالحها الخارجية، ومن ثم فقد كان الصراع الداخلي في الجزائر هو بشكل أو بآخر انعكاس للصراع الفرنسي الأمريكي على الجزائر.
وفي هذا الإطار كان خطأ فرنسا الكبير هو رهانها على التيار الاستئصالي تجاه الحركة الإسلامية في الجزائر، ودعمها للشق المتطرف داخل النظام الذي لا يرغب في الحوار، وراهنت على انتصاره، وذلك عكس موقف الولايات المتحدة التي رغبت في تحقيق حوار واسع، ومصالحة شاملة، وهي اليوم أكبر المتحمسين لقانون الوئام المدني، ويبدو أنها حققت انتصاراً كبيراً بضعف تأثير فرنسا، وتراجع التيار الاستئصالي الموالي لها.
رغم أن الموقف الأمريكي حكمته أيضاً مصالح الولايات المتحدة الحيوية، والتي تتركز في بسط هيمنتها على كل بقاع العالم، الأمر الذي اصطدم بالتوجهات السياسية الفرنسية، كما أن ما ساهم في بلورة الموقف الأمريكي الواضح من الأزمة التي تؤثر مباشرة في استقرار فرنسا الداخلي هو اعتقاد الإدارة الأمريكية أن دعم الإسلاميين حتى وإن كان إعلامياً فقط في المرحلة الأولى من شأنه تقويض المصالح الفرنسية في الجزائر، بعدما تم تقويضها في أغلب مناطق النفوذ التاريخي لفرنسا، وهو في النهاية ما يعمل على تحقيق المصالح والأهداف السياسية الأمريكية في تلك المنطقة المهمة من مناطق العالم.